بقلم: الدكتور علي الفتال
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وآله الطيبين الطاهرين.
أما بعد:
من خلال قراءتي ((نهج البلاغة)) بتأملٍ وتأنٍ ورويَّة، وجدت في محتواه خصائص هي بمجموعها تشكل قوانين الحياة بمفاصلها الحيوية، وأنا بتحديدي تلك الخصائص لا يعني ذلك أنني توفرت على خصائص ((النهج)) كلها بل هي بعض ما تراءى لي بعد قراءتي المتأنية تلك. لذلك أطلقتُ عليها ((من خصائص))، والتبعيض هذا الذي دلّت عليه الأداة (مِن) يعني أن ثمة خصائص أخرى يضمها كلام علي عليه السلام فاكتفيت بالذي وجدت.
وإليك قارئي العزيز هذه الخصائص
البلاغة
إن ((نهج البلاغة)) يدل من اسمه، على أن كلام الإمام علي عليه السلام، كله بليغ، بل هومن وضع أسس البلاغة العربية و((سنَّ الفصاحة)). وقد مرّ بنا وسنمر - إنشاء الله - في الجزء الخامس على عيّنات من بلاغة الإمام بفروعها من بيان وبديع ومعانٍ.
ولكي لا نترك فقرتنا هذه بلا شاهد نستعين بعيّنات من كلماته البليغة (عليه السلام) منها:
الخداع / قال عليه السلام:
((يقول ابن خالك، عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق)).
وهذا من باب الخداع والاستدراج في علم البيان.
الموازنة / قال عليه السلام:
((الحمد لله غير مقنوط من رحمته، ولا مخلومن نعمته، ولا ميؤوس من مغفرته..)). وهذا من باب الموازنة في علم البيان.
التخلص / قال عليه السلام من خطبة يذكر فيها ملك الموت وتوفيه الأنفس:
((هل يُحسُّ به إذا دخل منـزلاً، أم هل تراه إذا توفى أحداً! بل كيف يتوفى الجنين في بطن أُمه؟ أيلج عليه من بعض جوارحها؟ أم الروح أجابته بـإذن ربها؟ أم هوساكن معه في أحشائها؟
كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله؟
وهذا من باب التخلص في علم البيان، إذ تخلص الإمام عليه السلام ببراعة من استطراده، ليصل إلى مراده في الجملة الاستفهامية الأخيرة. (كيف يصف إلهه).
الاستعارة / ولما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلَّم، وخاطبه العباس وأبوسفيان بن حرب أن يبايعا له بالخلافة، قال عليه السلام:
((أيها الناس؛ سقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرِّجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح أواستسلم فأراح، ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها، ومجتن الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت.
هيهات - بعد اللتيا والتي - والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمه. بل اندمجت على مكنون علمٍ لوبُحتُ به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطرق البعيدة)).
وهذا من باب الاستعارة، إذ استعار أمواج البحر لأمواج الفتن، والمفاخرة للتيجان.. وهكذا.
الاعتراض / وقال عليه السلام:
((ألا وفي غدٍ - وسيأتي غد بما لا تعرفون - يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها وتخرج له الأرض أفاليذ كبدها، وتلقي إليه سلماً مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة، ويحيي ميت الكتاب والسنّة)).
وكان مراده عليه السلام في (ألا وفي غد يأخذ الوالي..) الاعتراض بين (ألا وفي غد)
وبين (يأخذ الوالي..) بـ (تشكيل اعتراضي) هو(وسيأتي غد بما لاتعرفون) وهذا ما يسميه النحاة (جملة اعتراضية) وأسميه أنا (تشكيل اعتراضي)، لأن شرط الجملة لم يتوفر فيه.
الجناس / قال عليه السلام:
((أرسله على حين فترة من الرسل، وتنازع الألسن، فقفّى به الرسل، وختم به الوحي، فجاهد في الله المدبرينعنه، والعادلين به)).
((وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر مما وراءها شيئاً، والبصير لا ينفذها بصره. ويعلم ان الدار وراءها، فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزوِّد، والأعمى لها متزوِّد).
وهذا من باب الجناس، إذ جانس - عليه السلام- بين الشاخص الأول والثاني وهومن الجناس التام.
السجع / وقال عليه السلام:
((وكتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيا لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعزٌّ لا تهزم أعوانه)).
إذ سجع عليه السلام بين (لسانه) و(أركانه) و(أعوانه).
الكناية / وقال عليه السلام لما قتل الخوارج وقيل له:
- يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم:
((كلا والله إنهم نطف في أصلاب الرجال، وقرارات النساء، وكلما نجم منهم قرنٌ قطع حتى يكون آخرهم لصوصاً سلاّبين)).
إذ كنّى عليه السلام بـ(قرارات النساء) عن الأرحام.
لزوم ما لا يلزم / قال عليه السلام:
((أحمده استتماماً لنعمته، واستسلاماً لعزته، واستعصاماً من معصيته، وأستعينه فاقة إلى كفايته؛ إنه لا يضل من هداه ولا يئِل من عاداه، ولا يفتقر من كفاه؛ فإنه أرجح ما وزن، وأفضل ما خزن، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة ممتحناً إخلاصها، معتقداً مصاصها، نتمسك بها أبداً ما أبقانا، وندخرها لأهاويل ما يلقانا؛ فإنها عزيمة الإيمان، وفاتحة الإحسان، ومرضاة الرحمان، ومدحرة الشيطان)).
فقد ورد في قوله عليه السلام ذاك إضافة إلى السجع، لزوم ما لا يلزم حيث (أرجع ما وزن وأفضل ما خزن) وهولزوم الزاء والنون في كلا الجملتين.
المقابلة أوالطباق / قال عليه السلام:
(أما بعد؛ فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، والآخرة أقبلت وأشرفت باطلاع، ألا وإن اليوم المضمار، وغداً السباق، والسبقة الجنة والغاية النار..).
فقد قابل عليه السلام بين (أدبرت) و(أقبلت) و(اليوم) و(غداً) و(الجنة) و(النار) ([1]).
الهوامش:
[1] لمزيد من الاطلاع ينظر: أضواء على نهج البلاغة بشرح ابن أبي الحديد في استشهاداته الشعرية، د. علي الفتال، ط: مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة: ج1، ص 306 - 309.