منزلة أمير المؤمنين من النبيّ الاُمّي عليهما السلام في الفردوس الأعلى
إجابة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن أسئلة الجاثليق
قال سلمان الفارسي ( رحمة الله عليه ) : لمّا قبض النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقلّد أبو بكر الأمر ، قدم المدينة جماعة من النصارى يتقدّمهم جاثليق له سمت ومعرفة بالكلام ووجوهه وحفظ التوراة والإنجيل وما فيهما ، فقصدوا أبو بكر ، فقال له الجاثليق : إنّا وجدنا في الإنجيل رسولا يخرج بعد عيسى ، وقد بلغنا خروج محمّد ابن عبد الله يذكر أنّه ذلك الرسول ، ففزعنا إلى ملكنا فجمع وجوه قومنا ، وأنفذنا في التماس الحقّ فيما اتّصل بنا ، وقد فاتنا نبيّكم محمّد ، وفيما قرأناه من كتبنا أنّ الأنبياء لا يخرجون من الدنيا إلاّ بعد إقامة أوصياء لهم يخلفونهم في اُممهم ، يُقتبس منهم الضياء فيما أشكل ، فأنت أيّها الأمير وصيّه ، لنسألك عمّا نحتاج إليه ؟
فقال عمر : هذا خليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . فجثا الجاثليق لركبتيه ، وقال له : خبّرنا
- أيّها الخليفة - عن فضلكم علينا في الدين ، فإنّا جئنا نسأل عن ذلك ؟
فقال أبو بكر : نحن مؤمنون وأنتم كفّار ، والمؤمن خير من الكافر ، والايمان خير من الكفر .
فقال الجاثليق : هذه دعوى تحتاج إلى حجّة ، فخبّرني أنت مؤمن عند الله أم عند نفسك ؟
فقال أبو بكر : أنا مؤمن عند نفسي ، ولا علم لي بما عند الله .
قال : فهل أنا كافر عندك على مثل ما أنت مؤمن ، أم أنا كافر عند الله ؟
فقال : أنت عندي كافر ، ولا علم لي بحالك عند الله .
فقال الجاثليق : فما أراك إلاّ شاكّاً في نفسك وفيّ ، ولستَ على يقين من دينك ، فخبّرني ألك عند الله منزلة في الجنّة بما أنت عليه في الدين تعرفها ؟
فقال : لي منزلة في الجنّة أعرفها بالوعد ، ولا أعلم هل أصل إليها أم لا .
فقال له : فترجو أن تكون لي منزلة في الجنّة ؟
قال : أجل أرجو ذلك .
فقال الجاثليق : فما أراك إلاّ راجياً لي ، وخائفاً على نفسك ، فما فضلك عليّ
في العلم ؟
ثمّ قال له : أخبرني هل احتويت على جميع علم النبيّ المبعوث إليك ؟
قال : لا ولكن أعلم منه ما قضى لي علمه .
قال : فكيف صرت خليفة للنبيّ ، وأنت لا تحيط علماً بما تحتاج إليه اُمّته من علمه ، وكيف قدّمك قومك على ذلك ؟
فقال له عمر : كفّ - أيّها النصراني - عن هذا العنت وإلاّ أبحنا دمك .
فقال الجاثليق : ما هذا عدل على من جاء مسترشداً طالباً .
فقال سلمان : فكأنّما ألبسنا جلباب المذلّة ، فنهضت حتّى أتيت عليّاً ( عليه السلام )
فأخبرته الخبر ، فأقبل - بأبي واُمّي - حتّى جلس والنصراني يقول : دلّوني على من
أسأله عمّا أحتاج إليه ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « سل - يا نصراني - فوالّذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة ، لا تسألني عمّا مضى ولا ما يكون إلاّ أخبرتك به عن نبيّ الهدى محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) » .
فقال النصراني : أسألك عمّا سألت عنه هذا الشيخ ، خبّرني أمؤمن أنت عند الله ، أم عند نفسك ؟
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
« أنا مؤمن عند الله كما أنا مؤمن في عقيدتي » .
فقال الجاثليق : الله أكبر هذا كلام وثيق بدينه ، متحقّق فيه بصحة يقينه ، فخبّرني
الآن عن منزلتك في الجنّة ما هي ؟ فقال ( عليه السلام ) : « منزلتي مع النبيّ الاُمّي في الفردوس الأعلى ، لا أرتاب بذلك ولا أشكّ في الوعد به من ربّي » .
فقال النّصراني : فبماذا عرفت الوعد لك بالمنزلة الّتي ذكرتها ؟
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « بالكتاب المنزل وصدق النبيّ المرسل » .
قال : فبماذا علمت صدق نبيّك ؟
قال ( عليه السلام ) : « بالآيات الباهرات والمعجزات البيّنات » .
قال الجاثليق : هذا طريق الحجة لمن أراد الإحتجاج ، فخبّرني عن الله تعالى ، أين هو اليوم ؟ فقال ( عليه السلام ) : « يا نصراني ، إنّ الله تعالى يجلّ عن الأين ، ويتعالى عن المكان ، كان فيما لم يزل ولا مكان ، وهو اليوم على ذلك لم يتغيّر من حال إلى حال » .
فقال : أجل أحسنت أيّها العالم وأوجزت في الجواب ، فخبّرني عنه تعالى أمدرك بالحواسّ عندك ، فيسلك المسترشد في طلبه استعمال الحواسّ ، أم كيف طريق المعرفة به إن لم يكن الأمر كذلك ؟
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « تعالى الملك الجبّار أن يوصف بمقدار ، أو تدركه الحواسّ ، أو يقاس بالنّاس ، والطريق إلى معرفته صنائعه الباهرة للعقول ، الدالّة ذوي الاعتبار بما هو عنده مشهود ومعقول » .
فقال الجاثليق : صدقت ، هذا والله الحقّ الّذي قد ضلّ عنه التائهون في الجهالات ،
فخبّرني الآن عمّا قاله نبيّكم في المسيح ، وإنّه مخلوق ، من أين أثبت له الخلق ، ونفى عنه الإلهيّة ، وأوجب فيه النقص ؟ وقد عرفت ما يعتقد فيه كثير من المتديّنين .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « أثبت له الخلق بالتقدير الّذي لزمه ، والتصوير والتغيير من حال إلى حال ، والزيادة الّتي لم ينفك منها والنقصان ، ولم أنفِ عنه النبوّة ، ولا أخرجته من العصمة والكمال والتأييد ، وقد جاءنا عن الله تعالى بأنّه مثل آدم خلقه من تراب ، ثم قال له : كن فيكون » .
فقال له الجاثليق : هذا ما لا يُطعن فيه الآن ، غير أنّ الحجاج ممّا تشترك فيه الحجّة على الخلق والمحجوج منهم ، فبم بنت أيّها العالم من الرعيّة الناقصة عنك ؟
قال ( عليه السلام ) :« بما أخبرتك به من علمي بما كان وما يكون » .
قال الجاثليق : فهلمّ شيئاً من ذكر ذلك أتحقّق به دعواك .
فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « خرجت - أيّها النّصراني - من مستقرّك مستفزّاً لمن قصدت بسؤالك له ، مضمراً خلاف ما أظهرت من الطلب والإسترشاد ، فأريت في منامك مقامي ، وحدّثت فيه بكلامي ، وحذّرت فيه من خلافي ، واُمرت فيه باتّباعي » .
قال : صدقت والله الّذي بعث المسيح ، وما اطّلع على ما أخبرتني به إلاّ الله تعالى ، وأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، وأنّك وصيّ رسول الله ، وأحق النّاس بمقامه . وأسلم الّذين كانوا معه كإسلامه وقالوا : نرجع إلى صاحبنا ، فنخبره بما وجدنا عليه هذا الأمر وندعوه إلى الحقّ .
(الأمالي للطوسي المجلس الثامن ، الحديث 32 ص 218 ، زين الفتى ج 1 ص 306 الرقم219 ، الخرائج ص 554 ، الصراط المستقيم ج 2 ص 15 ، التحصين لسيد بن طاووس ص 637 المناقب لابن شهر آشوب ج 2 ص 257 ، بحار الأنوار ج 10 ص 54 ).