المتربية في بيت النبوة والرسالة (فضة النوبية) (رضوان الله عليها)

علي ومعاصروه

المتربية في بيت النبوة والرسالة (فضة النوبية) (رضوان الله عليها)

6K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 18-07-2020

علي فاضل الخزاعي

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولا سيما علي أمير المؤمنين والأئمة من أبنائه الميامين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين، إلى قيام يوم الدين.
من الشخصيات المهمة التي تربت في بيت النبوة والرسالة، ونهلت من آدابهم وأخلاقهم وعلومهم هي (فضة النوبية)، التي كانت ملازمة لمولاتنا الزهراء (عليها السلام) حتى انغرست في نفسها كل معاني الكمال والفضيلة والورع والتقوى، فهي كانت تلتقط عبر معاشرتها وخدمتها لأطهر بيت كلَّ درجات الإيمان والتقوى والزهد والورع، فلا بد من بيان حياة هذه السيدة الجليلة التي خدمت في بيت أمير المؤمنين (عليه السلام).
فهذه السيدة الجليلة أنفذها رسول اللَّه (صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم) إلى بضعته فاطمة الزهراء (عليها السّلام)؛ لكي تشاطرها الخدمة، وقد علَّمها رسول اللَّه (صلَّى اللَّه عليه وآله وسلم) دعاء تدعو به، وصارت من بعد الزهراء (عليها السّلام) للإمام عليّ (عليه السّلام)، فزوّجها من أبي ثعلبة الحبشي، فأولدها ابنا، ثمّ مات عنها أبو ثعلبة، وتزوّجها من بعده أبو مليك الغطفاني، وذكرت المصادر قصّة وجودها بالبادية وأنّها ما تكلَّمت عشرين سنة إلَّا بالقرآن[1].
ومما ورد في فضائل هذه السيدة الطاهرة أنَّه روي أنها لما جاءت فضة إلى بيت السيدة فاطمة (سلام الله عليها) وهي كانت بنت ملك من ملوك الحبشة، وقيل بنت ملك الهند وكان عندها ذخيرة من الأكسير فلم تجد في بيت الإمام علي (عليه السلام) إلا السيف والدرع والرحى، فأخذت قطعة من النحاس ولانتها وجعلتها على هيئة سبيكة وعلقت عليها الدواء وصبغتها ذهبا، فلما جاء أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) وضعتها بين يديه فلما رآها قال: أحسنت يا فضة، لو أذبت الجسد لكان الصبغ أعلا والقيمة أعلا، فقالت يا سيدي تعرف هذا العلم، قال (عليه السَّلَام): نعم وهذا الطفل يعرفه، وأشار إلى الإمام الحسين (عليه السَّلَام) فجاء وقال كما قال أمير المؤمنين، فقال لها أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) عند ذلك يا فضة نحن نعرف أعظم من هذا ثم أومى بيده فإذا عنق من ذهب وكنوز الأرض سائرة، فقال يا فضة ضعيها مع أخواتها فوضعتها فسارت فقال (عليه السَّلَام): يا فضة إنَّا ما خلقنا لهذا[2].
ومن شدة الورع والتقوى الذي اكتسبته من أهل بيت النبوة تشاطرت الخدمة مع مولاتنا الزهراء (عليها السَّلَام)، وكانت تلتقط من علمها وتقواها كل معاني الورع؛ حتى وصل الأمر إلى أن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) يعلمها من مفاتيح المعرفة.
فعن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن علي أن رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) أخدم فاطمة ابنته (صلوات الله تعالى وسلامه عليها) جارية اسمها فضة النوبية، وكانت تشاطرها الخدمة، فعلمها رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلم) دعاء تدعو به، فقالت لها فاطمة: أتعجنين أو تخبزين؟ فقالت: بل أعجن يا سيدتي وأحتطب، فذهبت واحتطبت وبيدها حزمة وأرادت حملها فعجزت، فدعت بالدعاء الذي علمها، وهو يا واحد ليس كمثله أحد، تميت كل أحد، وتفني كل أحد، وأنت على عرشك واحد، ولا تأخذه سنة ولا نوم، فجاء أعرابي كأنَّه من أزد شنوءة فحمل الحزمة إلى باب فاطمة[3].
وقد ذكرت الروايات بأن فضة النوبية كانت تشارك أهل البيت (عليهم السلام) في كل واقعة وحادثة تحدث معهم (عليهم السلام)، فعن ابن عباس قال: في قول الله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[4].
قال: مرض الحسن والحسين، فعادهما جدهما رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، وعادهما عامة العرب، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك نذرا، فقال علي: إن برآ مما بهما، صمت لله (عزَّ وجلَّ) ثلاثة أيام شكرا، وقالت فاطمة كذلك، وقالت جارية يقال لها فضة نوبية: إن برأ سيداي، صمت لله (عزَّ وجلَّ) شكرا، فألبس الغلامان العافية، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق الإمام علي إلى شمعون الخيبري، فاستقرض منه ثلاثة آصع من شعير، فجاء بها فوضعها، فقامت فاطمة إلى صاع فطحنته واختبزته، وصلى علي مع رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم).
ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، وإذا هم كذلك أتاهم مسكين فوقف بالباب، فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، مسكين من أولاد المسلمين، أطعموني أطعمكم الله (عزَّ وجلَّ) على موائد الجنة، فسمعه علي، فأمرهم فأعطوه الطعام، ومكثوا يومهم وليلتهم، لم يذوقوا إلا الماء.
فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع وخبزته، وصلى علي مع النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، وحالما وضع الطعام بين يديه أتاهم يتيم فوقف بالباب، وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، يتيم بالباب من أولاد المهاجرين، استشهد والدي، أطعموني، فأعطوه الطعام، فمكثوا يومين لم يذوقوا، إلا الماء.
فلما كان اليوم الثالث، قامت فاطمة إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته، فصلى علي مع النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، ووضع الطعام بين يديه، إذ أتاهم أسير، فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت النبوة، تأسروننا، وتشدوننا، ولا تطعموننا، أطعموني فإني أسير، فأعطوه الطعام، ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا إلا الماء، فأتاهم رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فرأى ما بهم من الجوع، فأنزل الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} - إلى قوله تعالى: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[5]})[6].
وأما في فضلها ودعاء أمير المؤمنين (عليه السلام) لفضة بالبركة فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق عن آبائه (عليهم السلام)، قال: (أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) منزل عائشة، فنادى: يا فضة، ائتينا بشيء من ماء نتوضأ به، فلم يجبه أحد، ونادى ثلاثا "، فلم يجبه أحد، فولى عن الباب يريد منزل الموفقة السعيدة الحوراء الإنسية فاطمة (عليها السلام)، فإذا هو بهاتف يهتف ويقول: يا أبا الحسن دونك الماء فتوضأ به، فإذا هو بإبريق من ذهب مملوء ماء عن يمينه، فتوضأ، ثم عاد الإبريق إلى مكانه، فلما نظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: يا علي ما هذا الماء الذي أراه يقطر كأنه الجمان؟
قال: بأبي أنت وأمي، أتيت منزل عائشة فدعوت فضة تأتينا بماء للوضوء ثلاثا فلم يجبني أحد، فوليت، فإذا أنا بهاتف يهتف وهو يقول: يا علي دونك الماء. فالتفت فإذا أنا بإبريق من ذهب مملوء ماء.
فقال: يا علي تدري من الهاتف؟ ومن أين كان الإبريق؟ فقلت: (الله ورسوله أعلم).
فقال (صلى الله عليه وآله): أما الهاتف فحبيبي جبرئيل (عليه السلام)، وأما الإبريق فمن الجنة، وأما الماء فثلث من المشرق، وثلث من المغرب، وثلث من الجنة. فهبط جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا رسول الله، الله يقرئك السلام ويقول لك: أقرى عليًّا السلام منِّي، وقل: إن فضة كانت حائضا).
فقال النبي صلى الله عليه وآله: " منه السلام، وإليه يرد السلام، وإليه يعود طيب الكلام، ثم التفت إلى علي (عليه السلام) فقال: (حبيبي علي، هذا جبرئيل أتانا من عند ربِّ العالمين، وهو يقرئك السلام ويقول: إن فضة كانت حائضًا)، فقال الإمام علي (عليه السلام): (اللهم بارك لنا في فضتنا)[7].
فهذه السيدة الجليلة التقطت من منهل معين علم الأئمّة (عليهم السلام)، وارتوت من فيض أهل البيت (عليهم السلام) كل معاني الطاعة لله (عز وجل) حتى بقيت تجني من نمير علمهم، وتربّت في مدرستهم، وطبعت كل حياتها ووجودها بطباعهم فكراً وعلماً، وفضيلة وإخلاصًا، فسلام الله تعالى عليها.
والحمد لله رب العالمين.

الهوامش:
[1] ينظر: دلائل الصدق لنهج الحق، الشيخ محمد حسن المظفر: 5/60.
[2] ينظر: الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي: 147.
[3] الإصابة، ابن حجر: 8/281.
[4] الإنسان: 7-8.
[5] الإنسان: 1- 9.
[6] ينظر، أسد الغابة، ابن الأثير: 7/ 236-237.
[7] الثاقب في المناقب: ابن حمزة الطوسي: 280-281.

المقالة السابقة المقالة التالية
ادارة الموقع

ادارة الموقع

Execution Time: 0.4454 Seconds