ظلامات عليٍّ (عليه السلام) في نهج البلاغة (ظلامة أصحابه أنموذجاً)

مقالات وبحوث

ظلامات عليٍّ (عليه السلام) في نهج البلاغة (ظلامة أصحابه أنموذجاً)

9K مشاهدة | تم اضافته بتاريخ 26-05-2018

ظلامات عليٍّ (عليه السلام) في نهج البلاغة (ظلامة أصحابه أنموذجاً)

 

الباحث: عمار حسن الخزاعي

 

الحديث عن ظلامات أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يكاد يخلو منه أي حديث عن شخصيته (صلوات الله عليه)، بحيث صار هذا الأمر جزء لا يتجزأ من محطات حياته، حتَّى صار عنواناً لمن تُستباح حقوقه، وقد وصل الأمر به أن يكون أوَّل من يجلس للخصومة في يوم القيامة؛ لكثرة من خاصمهم في الله تعالى، فقال عن نفسه: ((أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ))([1]) .

 

على أنَّ الظلم درجات يشتدُّ كلَّما كان الظالم قريباً من المظلوم، ومن أقسى الدرجات ما كان من الأصحاب، وهذا النوع يكون أشدُّ إيلاماً للنفس وأكثر وقعاً بها، وقد تعَّرض أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لكلِّ أنواع الظلم من دون تمييز، ومن ذلك ما جناه (عليه السلام) من أصحابه الذين تمادوا في ظلمه، حتَّى قيل أنَّ علياً (عليه السلام) لم يُولد في عصره الذي يستحقّه، ولا بين الناس التي تعرف قدره، وقد تجشَّم منهم العناء تلو العناء .

 

ويمكن لنا أن نستشعر بعض ظلامته (صلوات الله عليه) ممَّن يُسمَّون أصحابه من خلال كلامه (عليه السلام) في نهج البلاغة، وسنركِّز على قضية عصيان أصحابه إليه، لأنَّ من أشدِّ الظلم على القائد أن يُعصى من لدن أصحابه ورعيته . ومن جملة ذلك ما قاله (عليه السلام) عندما وصل إليه خبر هجوم بسر بن أرطأة أحد قادة معاوية بن أبي سفيان على اليمن: ((أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اطَّلَعَ الَيمنَ، وَإِنِّي وَاللهِ لأظُنُّ هؤُلاءِ القَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِماعِهمْ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ، وَبِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ في الحَقِّ، وَطَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ في البَاطِلِ، وَبِأَدَائِهِمُ الأمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَخِيَانَتِكُمْ، وَبِصَلاَحِهمْ في بِلاَدِهِمْ وَفَسَادِكُمْ، فَلَو ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْب لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاَقَتِهِ))([2]).

 

ثمَّ يُطيل العجب أمير المؤمنين (عليه السلام) من عصيان أصحابه وتفرقهم عنه بالرغم من الحقِّ الذي هم فيه، واجتماع أصحاب معاوية وطاعتهم له بالرغم من الباطل الذي هم عليه، وفي ذلك يقول (عليه السلام): ((فَيَا عَجَباً! عَجَباً ـ وَاللهِ ـ يُمِيتُ القَلْبَ وَيَجْلِبُ الهَمَّ مِن اجْتِماعِ هؤُلاَءِ القَوْمِ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ  غَرَضاً يُرمَى: يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْرُونَ، وَيُعْصَى اللهُ وَتَرْضَوْن!))([3])، ثمَّ يذكر تسويفهم لأوامره بالحجج الواهية والأعذار الكاذبة فيقول: ((فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِم فِي أَيَّامِ الحَرِّ قُلْتُمْ: هذِهِ حَمَارَّةُ القَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخُ عَنَّا الحَرُّ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ: هذِهِ صَبَارَّةُ القُرِّ، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا البَرْدُ، كُلُّ هذا فِرَاراً مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ; فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَاللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ))([4]) .

 

ويمضي الوقت وأعذارهم في عصيانه (عليه السلام) تزداد حتَّى يفقد الثقة بهم، والطمع في نصرتهم له فيقول: ((أَصْبَحْتُ وَاللهِ لا أُصَدِّقُ قَوْلَكُمْ، وَلاَ أَطْمَعُ فِي نَصْرِكُمْ، وَلاَ أُوعِدُ العَدُوَّ بِكُم. مَا بَالُكُم؟ مَا دَوَاؤُكُمْ؟ مَا طِبُّكُمْ؟ القَوْمُ رِجَالٌ أَمْثَالُكُمْ، أَقَوْلاً بَغَيْرِ عِلْم! وَغَفْلَةً مِنْ غَيْرِ وَرَع! وَطَمَعاً في غَيْرِ حَقٍّ؟!))([5])

 

حتَّى يصل به (عليه السلام) الأمر أن يتمنَّى أن لم يرهم ولم يعرفهم، ويُظهر الندامة على  معرفتهم ((يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلاَ رِجَالَ! حُلُومُ الأطْفَالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الحِجَالِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَلَمْ أَعْرِفْكمْ مَعْرِفَةً ـ وَاللهِ ـ جَرَّتْ نَدَماً، وَأَعقَبَتْ سَدَماً))([6])

 

ثمَّ يبدأ بالدعاء عليهم؛ لمَّا رأى م سوء معاملتهم له وعصيان إليه فيقول: ((قَاتَلَكُمُ اللهُ! لَقَدْ مَلاَتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً، وَأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالعِصْيَانِ وَالخذْلاَن، حَتَّى قَالَتْ قُريْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِب رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلْكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالحَرْبِ . للهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً، وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟! لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ العِشْرِينَ، وها أنا ذا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى السِّتِّينَ! وَلكِنْ لا رَأْيَ لَمِنْ لاَ يُطَاعُ))([7])، إلى أن يصل الأمر به (صلوات الله عليه) أن يقول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّوني، وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُوني، فَأَبْدِلنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ، وأَبْدِلُهمْ بِي شَرَّاً مِنِّى، اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ))([8]) .

 

صلَّى الله عليك يا أمير المؤمنين بحجم ما تحمَّل قلبك من لوعة وآلام، تعساً ثمَّ تعساً لكلِّ من ظلمك وناواك . ونحن بما قدَّمنا من كلام لا نقصد به كلَّ أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإنَّما المقصود منهم أولئك الذين لم تتطهَّر قلوبهم بنور الإيمان، وإلَّا فمن الأصحاب من هم سادات في الإيمان، وقامات في الطاعة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد ذكرهم في كثير من أقواله، ومنها: ((أَنْتُمُ الاَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ، وَالاِخُوَانُ في الدِّينِ، وَالْجُنَنُ يَوْمَ الْبَأْسِ، وَالْبِطَانَةُ دُونَ النَّاسِ، بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ، وَأَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ، فَأَعِينُوني بِمُنَاصَحَة خَلِيَّة مِنَ الْغِشِّ، سَلِيمَة مِنَ الرَّيْبِ; فَوَ اللهِ إِنِّي لأوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ))([9])

 

وقد تحسَّر على بعضهم باكياً لفقدهم فيقول: ((أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّريقَ، وَمَضَوْا عَلَى الْحَقِّ؟ أَيْنَ عَمَّارٌ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ، وَأُبْرِدَ بِرُؤوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ؟ قال: ثمّ ضرب(عليه السلام) بيده إلى لحيته، فأطال البكاء، ثمّ قال: أَوْهِ عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ، وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ، وَأمَاتُوا الْبِدْعَةَ، دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوا))([10]) .

 

ولكن هؤلاء كانوا القلائل في جيشه وعسكره، ولذلك يتألم عليهم ويبكي من أجلهم، أمَّا الفئة الغالبة فكانت من الذين آذوه وظلموه (صلوات الله وسلامه عليه) .

 

الهوامش:

 

 ([1])صحيح البخاري: 5/75، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، أحمد البيهقي: 3/73، التفسير الكبير، الفخر الرازي: 23/21، سعد السعود، السيد ابن طاووس: 102، شرح صحيح مسلم، النووي: 18/166، الدر المنثور: 6/19، بحار الأنوار: 19/ 313، البرهان في تفسير القرآن، السيد هاشم البحراني: 3/862 ، نيل الأوطار، الشوكاني: 8/86.

 

([2]) نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) (ت: 40 هـ)، جمعه الشريف الرضي، ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية: الدكتور صبحي صالح، ط1، (1387هـ - 1967م): 67.

([3]) المصدر نفسه: 70

([4]) المصدر نفسه

([5]) المصدر نفسه: 73

([6]) نهج البلاغة: 70

([7]) المصدر نفسه: 71

([8]) المصدر نفسه: 67

([9]) نهج البلاغة: 175 .

([10]) المصدر نفسه: 264 .

 

المقالة السابقة المقالة التالية

Execution Time: 0.2569 Seconds