البَاحِث: سَلَام مَكِيّ خضَيّر الطَّائِيّ
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصَّلَاة والسَّلام على المبعوث رحمة للعالمين مُحَمَّد بن عبد الله وآله الطَّيِّبين الطَّاهِرين، واللعن الدَّائم على أعدائِهم إلى قيامِ يوم الدِّين...
أما بعد...
فإن من الأخلاقيات الإسلاميةّ التي جاءت بها الشريعة المُحَمَّديَّة الغرَّاء، هي: صفة (الصّدق).
وهذه الصفة من الصفات الأخلاقيَّة التي لا بد من تحلّي الفرد بها، لأنها من صفات الرَّسول الأكرم مُحَمَّد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله)، لذلك لُقِّب بالصَّادِق الأمين، وفيها تكون نجاة الفرد المؤمن من الهلاك، إذا أصدق بحديثه مع قرينه الآخر، وذلك لأنَّه قبل كلّ شيء إنَّه صدق مع الله تعالى ورسوله وآل بيته الأطهار (صلَّى الله تعالى عليه وعليهم).
وهناك العديد من الآيات القرآنية والأحاديث والروايات الشَّريفة تؤكد وتنصّ على التزام الفرد بالصدق في كلّ فروع حياته ليس في الحديث فقط، منها قوله تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾[1].
ويقول النَّبِيّ (صلَّى الله عليه وآله): (عليكم بالصّدق، فإن الصّدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصّدق حتى يكتب عند الله صديقا)[2].
ومن تتبَّع كلام الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام)، يجد أن موضوع: (صدق الحديث مع الآخر)، قد أخذ حيزًا كبيرًا من كلامه (صلوات الله تعالى وسلامه عليه)، وذلك لأهميّة صدق المُحاوِر في حديثه مع الآخر، وإنَّه شرط من الشروط الأساسية للحوار الناجح بين المتحاورين، ليتسنى لهما الوصول إلى نتيجة مرضية في نهاية أطراف حوارهما، وذلك لأن عدم الالتزام بالصّدق يلحق الضّرر بالشخص الذي صدر منه هذا الفعل، مما ينعكس عليه سلبًا، فيظهر بالمظهر غير اللائق به وبمقامه أمام محاوره الآخر، مما يؤدي هذا إلى عدم الحصول على نتيجة مرضية في نهاية الحوار والنّقاش مع الآخر[3].
فأمير المؤمنين (عليه السَّلَام) يؤكّد على الابتعاد عن قول الكذب والزور في الحديث مع الآخر ويحذرنا منه، وذلك لما يترتَّب عليه من عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة، فروي عنه (عليه السَّلَام) أنَّه قال: (احذر فحش القول والكذب، فإنهما يرزيان بالقائل)[4]، وذلك لأنَّ وجه الشبه بين الكذب وفحش القول: أن كلا منهما يُعدّ من آفات لسان الفرد التي تؤدي به إلى الهلاك.
فأهمية الالتزام بصدق الحديث والابتعاد عن قول الزّور والفحشاء في أثناء الحوار، يُعدّ من المنجيات للفرد نفسه، بل يصل الأمر في أهمية الصدق إلى جعله أحد الصفات الأساسيَّة للمسلم، وإنَّه من علامات المؤمنين الصَّادقين مع الله تعالى ورسوله (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السَّلَام)، وإنَّ الكذب من علامات المنافقين الذين يفترون على الله تعالى ورسوله وآل بيته الأطهار (صلَّى الله تعالى عليه وعليهم) وإن الإسلام في حقيقته نبذ للأوهام، وبعد عن الباطل، وهو بذلك يتنافى مع الكذب، ومن افتراه ليس مؤمنًا[5]، فقال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾[6]، فإن الإمام (عليه السَّلَام)، لذلك مدح الصّدق وذم الكذب وحذَّر منه[7].
وأيضًا لأهميَّة الصّدق فإنَّ الإمام (عليه السَّلَام) أكَّد على هذه الصّفة الحميدة وفعلها في أحلك الظُّروف وأصعبها، فقد حذَّر (عليه السَّلَام) أصحابه ومنعهم من استعماله حتَّى مع أعدائه وجيوشهم، وطالبهم بالالتزام بالصّدق والعهد وأن لا يناقض الحديث الواقع بينهم، وأن يبتعدوا عن فحش القول[8].
فلابد من أن يكون الحوار الذي يدور مع المقابل خاليًا من المراء والكذب والنّفاق، فحذَّر الإمام (عليه السَّلَام) من صفة النّفاق والمنافقين فقال عنه: (إيّاك والنّفاق فإنّ ذا الوجهين لا يكون وجيهًا عند الله)[9]، وذلك لأن النّفاق لو صاحب الحديث بين المتحاورين وانعدم الصدق في حديثهما، قد يؤدّي إلى عدم الوصول إلى نتيجة ينتفع بها كل من الطرفين المتحاورين، لأنَّ المنافِقين لا يلتزمون بقول الصّدق ولا الحق في الحديث، ويعملون على خداع النَّاس ويتسببون في انحرافهم عن الصواب[10]، ويُظهرون خلاف ما يبطنون في داخلهم، فقد يظهر على ألسنتهم وتوافقهم مع الآخرين، لكن هذا خلاف ما يضمرون في قلوبهم، فروي عن أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) أنَّه قال: (المنافق لسانه يسرّ، وقلبه يضرّ)[11].
وهذا وقد يظهر توافقًا كاملًا أثناء الحديث أو الحوار بين المتحاورين، فهذا أيضًا قد يدلّ على النّفاق في أغلب الأحيان، وذلك لأنّ أغلب الآراء مختلفة اختلافًا شديدًا تكاد لا تتناهى بحسب اختلاف التّصورات وجودة الحدس وضعفه واستقامة التخيل واعوجاجه الصادر عن التفاوت في الأمزجة، ولا يعقل عاقل أن يكون الحديث بين المتحاورين موافقًا لرأي كلا الطّرفين المتحاورين، ويكون مجرَّدًا من اختلاف وجهات النَّظر المختلفة بينهما، حتى أننا نجد لكثير من النَّاس آراءً يستبدون بها لا تكاد تتصور موافقة أحد لهم فيها، ثم إن كان لابد من الوفاق الصحيح إلَّا أن ذلك لا يكون إلَّا في الأحكام الضرورية أو البرهانيَّة، وهي مع أنّها أقلية الوجود بالنّسبة إلى الأحكام التي تخفى أسبابها فتكاد تسلم من اختلاف الآراء فيها[12]، قال الإمام عَلِيّ (عليه السَّلَام): (كثرة الوفاق نفاق)[13]، ومن حمل صفة النّفاق وكان لديه أكثر من وجه في الحديث، هذا أقبح إنسان، فروي عن أمير المؤمنين الإمام عَلِيّ (صلوات الله تعالى وسلامه عليه) أنّه قال: (ما أقبح بالإنسان أن يكون ذا وجهين)[14]، فبهذه الطّريقة خرج الحديث عن الصّدق إن لحقت به هذه الصّفة القبيحة الذميمة.
فيجب على الفرد أن يكون حديثه صادقًا خاليًّا من أي شيء يشوبه، من كذبٍ ونفاق ومجاملة ومراء وغير ذلك، لكي يكون حديثًا نافعًا بين كل من الطرفين الكل المتحاورين على وفق ما جاء في الشَّرِيعة الإسلاميَّة.
وفي الختام: نسأل الله تعالى أن يمن علينا والأمة الإسلامية جميعًا بالخير والأمن والأمان والصّحة والسَّلَامة، بحقّ مُحَمَّد وآلهِ الأطهار الذين أذهَب الله تعالى عنهم الرّجس وطهَّرهم تطهِيرًا...
الهوامش:
[1] سورة التوبة: 119.
[2] الحديث النَّبويّ بين الرّوايَّة والدّراية، الشَّيخ السّبحاني: 118.
[3] ينظر: الحوار في كلام الإمام عَلِيّ (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، د. أنيسة الخزعلي: 12.
[4] مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري الطّبرسي: 12/83.
[5] يُنظر: السيرة النبوية والدعوة في العهد المكي، أحمد أحمد غلوش: 1/585، والمعجم الموضوعي لنهج البلاغة، أويس كريم محمّد: 315.
[6] سورة النَّحل: 105.
[7] ينظر: المعجم الموضوعي لنهج البلاغة، أويس كريم مُحَمّد: 315.
[8] ينظر: الحوار في كلام الإمام عَلِيّ (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام): 13.
[9] موسوعة أحاديث أهل البيت (عليهم أفضل الصَّلَاة والسَّلَام)، الشَّيخ هادي النَّجفي: 11/408.
[10] ينظر: الحوار في كلام الإمام عَلِيّ (عليه أفضل الصَّلَاة والسَّلَام): 14.
[11] ميزان الحكمة، مُحَمَّد الرّيشهري: 4/3338.
[12] يُنظر: شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين (عليه السَّلَام)، ابن ميثم البحراني: 127.
[13] شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني: 1/27.
[14] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي: 483.