الباحث: محمد حمزة الخفاجي
الْحَمْدُ لله وإِنْ أَتَى الدَّهْرُ بِالْخَطْبِ الْفَادِحِ، والْحَدَثِ الْجَلِيلِ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا الله لَا شَرِيكَ لَه، لَيْسَ مَعَه إِلَه غَيْرُه، وأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُه ورَسُولُه . . .
وبعد . . .
قبل أن تفارق الزهراء الحياة أوصت الإمام علي (عليه السلام) بوصايا عدة ،منها أنها قالت لعلي (عليه السلام): (. . . يا بن عم أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي بابنة إمامة فإنها تكون لولدي مثلي فإن الرجال لابد لهم من النساء قال فمن أجل ذلك، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أربعة ليس إلى فراقهن سبيل: بنت امامة أوصتني بها فاطمة، ثم قالت أوصيك يا بن عم ان تتخذ لي نعشا فقد رأيت الملائكة صوروا صورته، فقال لها: صفيه إلي فوصفته فاتخذه لها، فأول نعش عمل في وجه الأرض ذلك، وما رأى أحد قبله ولا عمل أحد، ثم قالت أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، وأخذوا حقي فإنهم أعدائي وأعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وان لا يصلى علي أحد منهم، ولا من اتباعهم، وادفني في الليل إذا هدأت العيون ونامت الأبصار . . .)[1].
يتضح من خلال هذه الرواية ان الزهراء (عليها السلام) أوصت الإمام بأربعة وصايا:
أولها: أن يتزوج الإمام بابنة امامة إذ إنها تشفق على أبنائها (عليهم السلام) وهذا ما اتضح من كلامها (عليها السلام).
ثانيها: أن يصنع لها نعشًا وهو أول نعش عمل في وجه الارض، فهذه السيدة الطاهرة كانت نقية، تقية، عفيفة، شريفة، لذا أراد الله أن تكون على سترها حتى في مماتها.
ثالثها: أن لا يشهد أحد جنازتها ممن ظلمها وغصب حقها.
رابعها: أن لا يصلي على جنازتها أحد منهم ومن جلاوزتهم.
وهاتين الوصيتين أعني الوصية الثالثة والرابعة تبين مظلوميتها وغضبها على القوم الذين غصبوا حقها وحق أمير المؤمنين في الخلافة، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن فاطمة بضعة مني، وهي نور عيني، وثمرة فؤادي، يسوءني ما ساءها، ويسرني ما سرها، وإنها أول من يلحقني من أهل بيتي)[2].
وقال (صلوات الله وسلامه عليه) لفاطمة (عليها السلام): (إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك)[3].
فقد غضبت الزهراء على من غصب حقها وحق بعلها وكانت وصيتها واضحة، واخفاء قبرها أوضح دليل على مظلوميتها.
جاء في دلائل الائمة: (روي أنها قبضت، وقد كمل عمرها يوم قبضت ثماني عشرة سنة، وخمسة وثمانين يوما بعد وفاة أبيها، فغسلها أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولم يحضرها غيره، والحسن، والحسين، وزينب، وأم كلثوم، وفضة جاريتها، وأسماء بنت عميس، وأخرجها إلى البقيع في الليل، ومعه الحسن والحسين، وصلى عليها، ولم يعلم بها، ولا حضر وفاتها، ولا صلى عليها أحد من سائر الناس غيرهم، ودفنها في الروضة، وعفى موضع قبرها، وأصبح البقيع ليلة دفنت وفيه أربعون قبرا جددا؟ وإن المسلمين لما علموا وفاتها جاءوا إلى البقيع، فوجدوا فيه أربعين قبرا، فأشكل عليهم قبرها من سائر القبور، فضج الناس ولام بعضهم بعضا، وقالوا: لم يخلف نبيكم فيكم إلا بنتا واحدة، تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها ولا دفنها ولا الصلاة عليها بل ولم تعرفوا قبرها فقال ولاة الأمر منهم: هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتى نجدها فنصلي عليها ونزور قبرها.
فبلغ ذلك أمير المؤمنين (صلى الله عليه)، فخرج مغضبا قد احمرت عيناه، ودرت أوداجه، وعليه قباؤه الأصفر الذي كان يلبسه في كل كريهة، وهو يتوكأ على سيفه ذي الفقار، حتى ورد البقيع، فسار إلى الناس من أنذرهم، وقال: هذا علي بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه، يقسم بالله لئن حول من هذه القبور حجر ليضعن السيف في رقاب الآمرين.
فتلقاه عمر ومن معه من أصحابه، وقال له: مالك يا أبا الحسن، والله لننبشن قبرها ولنصلين عليها.
فضرب علي (عليه السلام) بيده إلى جوامع ثوبه فهزه ثم ضرب به الأرض، وقال له: يا بن السوداء، أما حقي فقد تركته مخافة أن يرتد الناس عن دينهم، وأما قبر فاطمة فوالذي نفس علي بيده لئن رمت وأصحابك شيئا من ذلك لأسقين الأرض من دمائكم، فإن شئت فاعرض يا عمر.
فتلقاه أبو بكر فقال: يا أبا الحسن، بحق رسول الله وبحق من فوق العرش إلا خليت عنه، فإنا غير فاعلين شيئا تكرهه، قال: فخلى عنه وتفرق الناس ولم يعودوا إلى ذلك...)[4].
فقد وفى الإمام علي (عليه السلام) والتزم بجميع الوصايا التي أوصت بها الصديقة فاطمة الزهراء وادى ما توجب عليه، وقد أبدى الإمام شكايته لرسول (صلى الله عليه وآله)، على القوم الذين خانوا العهد ذلك حينما وقف على قبر نبي الرحمة إذ تكلم بكلمات حزينة تقشعر لها الأبدان وتهتز لها الجبال الراسية لعظيم المصاب وشدة البلاء الذي أصابه عند استشهاد الصديقة الطاهرة (عليها السلام) إذ قال (عليه السلام): (...قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّه عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي ورَقَّ عَنْهَا تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ، وفَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ، فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وصَدْرِي نَفْسُكَ، فَإِنَّا لله وإِنَّا إِلَيْه راجِعُونَ فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ الله لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ، وسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا، فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هَذَا ولَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ ولَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ، والسَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ ولَا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ الله الصَّابِرِينَ)[5].
هذا ما قاله الإمام (عليه السلام) لنبي الرحمة (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ) عند وداع الزهراء (عليها السلام) وفيه أيضا بيان لمظلوميتها.
وفي الختام أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين أبي القاسم محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين.
الهوامش:
[1] - روضة الواعظين، الفتال النيسابوري: 151.
[2] - الأمالي، الشيخ الصدوق: 575.
[3] - المستدرك، الحاكم النيسابوري: 3 / 154، وقال: (هذا حديث صحيح الاسناد).
[4] - دلائل الإمامة، محمد بن جرير الطبري (الشيعي): 136 – 137.
[5] - نهج البلاغة، 202 ومِنْ كَلَامٍ لَه (عليه السلام) رُوِيَ عَنْه أَنَّه قَالَه عِنْدَ دَفْنِ سَيِّدَةِ النِّسَاءِ فَاطِمَةَ (عليه السلام)، كَالْمُنَاجِي بِه رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) عِنْدَ قَبْرِه: 319.